فصل: تفسير الآيات (25- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (8- 10):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)}
وقوله سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يجادل فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ...} الآية الإشارة بقوله: {وَمِنَ الناس} إلى القوم الذين تقدَّمَ ذكرُهُم، وكَرَّرَ هذه الآية؛ على جهة التوبيخ فكأنه يقول: فهذه الأمثال في غاية الوضوح، ومِنَ الناس مع ذلك مَنْ يجادل، و{ثَانِيَ}: حال من الضمير في {يجادل}.
وقوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ}: عبارة عن المُتَكَبِّرِ المُعْرِضِ؛ قاله ابنُ عباس وغيرُه؛ وذلك أَنَّ صاحب الكبر يردُّ وجهه عَمَّنْ يتكبر عنه، فهو يَرُدُّ وجههُ يِصَعِّرُ خَدَّهُ، ويولي صَفْحَتَهُ، ويَلْوَيَ عُنُقَهُ، ويَثْنِي عِطْفَه، وهذه هي عبارات المفسرين، والعطف: الجانب.
وقوله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي: يقال له ذلك، واخْتُلِفَ في الوقف على: {يداك} فقيل: لا يجوزُ: لأَنَّ التقدير: وبأَنَّ اللّه، أي: أنَّ هذا هو العدل فيك بجَرَائِمِكَ.
وقيل: يجوز بمعنى: والأمر أَنَّ اللّه ليس بظلاَّمٍ للعبيد.

.تفسير الآيات (11- 18):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)}
وقوله سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ...} الآية نزلت في أعراب، وقوم لا يَقِينَ لهم؛ كان أحدُهم إذا أسلم فاتفق له اتفاقاتٌ حِسَانٌ: من نموِّ مال، وولد يُرْزَقُهُ، وغير ذلك قال: هذا دِينٌ جَيِّدٌ، وتمسك به لهذه المعاني، وإنْ كان الأمر بخلاف ذلك، تشاءَم به، وارتد؛ كما فعل العُرَنِيون، قال هذا المعنى ابن عباس وغيره.
وقوله: {على حَرْفٍ} معناه: على انحرافٍ منه عن العقيدة البيضاء، وقال البخاريُّ: {على حَرْفٍ}: على شَكٍّ، ثم أسند عن ابن عباس ما تقدم من حال الأعراب، انتهى.
وقوله: {يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ} يريد الأوثانَ، ومعنى {يَدْعُواْ}: يعبد، ويدعو أيضاً في مُلِمَّاتِهِ، واللام في قوله: {لَمَن ضَرُّهُ}: لام مُؤْذِنَةٌ بمجيء القسم، والثانية في {لَبِئْسَ}: لام القسم، و{العشير}: القريب المُعَاشِرُ في الأُمور.
وفي الحديث في شأن النساء: «وَيَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» يعني الزوج.
قال أبو عمر بن عبد البر: قال أهل اللغة: العشير: الخليط من المعاشرة والمخالطة، ومنه قوله عز وجل: {لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير}.
انتهى من التمهيد، والذي يظهر: أَنَّ المراد بالمولى والعشير هو الوثن الذي ضَرُّهُ أقرب من نفعه، وهو قول مجاهد، ثم عَقَّبَ سبحانه بذكر حالة أهل الإيمان وذكر ما وعدهم به فقال: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار...} الآية، ثم أَخذتِ الآية في توبيخ أولئك الأولين كأنه يقول: هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق، وظَنُّوا أَنَّ اللّه تعالى لن ينصرَ محمداً وأتباعه، ونحن إنَّما أمرناهم بالصبر وانتظارِ وعدنا، فَمَنْ ظَنَّ غير ذلك فليمدد بسبب، وهو الحبل وليختنق هل يذهب بذلك غيظه؟ قال هذا المعنى قتادة، وهذا على جهة المَثَلِ السائر في قولهم: دُونَكَ الحَبْلُ فَاخْتَنِقْ، و{السماء} على هذا القول: الهواء عُلُوّاً، فكأَنه أراد سقفاً أو شجرة، ولفظ البخاري: وقال ابن عباس: بسبب إلى سَقْفِ البيتِ، انتهى، والجمهورُ على أنَّ القطع هنا هو الاختناق.
قال الخليل: وقطع الرجل: إذا اختنق بحبل ونحوه، ثم ذكر الآية، ويحتمل المعنى مَنْ ظَنَّ أَنَّ محمداً لا ينصر فليمت كمداً؛ هو منصور لا محالَة، فليختنق هذا الظانُّ غيظاً وكمداً، ويؤيد هذا: أَنَّ الطبري والنقاش قالا: ويُقال: نزلت في نفر من بني أَسَدٍ وغَطَفَانَ، قالوا: نخاف أَلاَّ يُنصرَ محمد؛ فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهودٍ من المنافع، والمعنى الأَوَّلُ الذي قيل للعابدين على حرف ليس بهذا؛ ولكنه بمعنى: مَنْ قلق واستبطأ النصر، وظَنَّ أن محمداً لا يُنْصَرُ فليختنق سفاهةً؛ إذ تعدَّى الأمرُ الذي حد له في الصبر وانتظار صنع اللّه، وقال مجاهد: الضمير في {يَنصُرَهُ} عائدٌ على {مَنْ} والمعنى: مَنْ كان من المتقلّقين من المؤمنين،، وما في قوله: {ما يغيظ} بمعنى الذي، ويحتمل أنْ تكونَ مصدرية حرفاً؛ فلا عائد عليها، وأبينُ الوجوه في الآية: التأويل الأَوَّلُ وباقي الآية بيّن.
وقوله: {وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس}، أي: ساجدون مرحومون بسجودهم، وقوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} مُعَادِلٌ له، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد هذا: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} الآية.

.تفسير الآيات (19- 22):

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)}
وقوله سبحانه: {هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ...} الآية، نزلت هذه الآيةُ في المتبارزين يوم بدر، وهم سِتَّةُ نفر: حَمْزَةُ، وعَلِيٌّ، وعبيدة ابنُ الحارث رضي اللّه عنهم بَرَزُوا لعتبةَ بنِ ربيعة، والوليد بن عتبة، وشيبة بن ربيعة، قال علي بن أبي طالب: أنا أَوَّلُ مَنْ يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي اللّه تعالى، وأقسم أَبو ذَرٍّ على هذا القولِ ووقع في صحيح البخاريِّ رحمه اللّه تعالى: أَنَّ الآيةَ فِيهم، وقال ابن عباس: الإِشارة إلى المؤمنين وأَهْلِ الكتاب؛ وذلك أَنَّهُ وقع بينهم تخاصم، فقالتِ اليهودُ: نحن أقدمُ دِيناً منكُم، ونحو هذا؛ فنزلت الآية، وقال مجاهد وجماعة: الإِشارة إلى المؤمنين والكُفَّارِ على العموم.
قال * ع *: وهذا قولَ تَعْضُدُهُ الآية؛ وذلك أنه تَقَدَّمَ قولُه: {وَكَثِير مِن الناس} المعنى: هم مؤمنون ساجدون، ثم قال تعالى: {وَكَثِير حَق عَلَيهِ العذاب}، ثم أشار إلى هذين الصنفين بقوله: {هذان خَصْمَانِ} والمعنى: أَن الإيمانَ وأهله، والكفرَ وأهله خصمان مذ كانا إلى يوم القيامة بالعداوة والجدال والحرب، وخصم مصدر يُوصَفُ به الواحد والجمع، ويَدُلُّ على أَنه أراد الجمع قوله: {اختصموا}؛ فإنه قراءة الجمهور وقرأ ابن أبي عبلة: {اخْتَصَمَا}.
* ت *: وهذه التأويلاتُ مُتَّفِقَاتٌ في المعنى، وقد ورد أَنَّ أَوَّلَ ما يُقضى به بين الناس يوم القيامة في الدماء، ومن المعلوم أَنَّ أَوَّلَ مبارزة وقعت في الإسلام مبارزة عَليٍّ وأصحابه، فَلاَ جَرَمَ كانت أَوَّلَ خصومة وحكومة يوم القيامة؛ وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ المَقْضِيِّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلاَئِقِ» وفي رواية: «المَقْضِيِّ بَيْنَهُمْ». وقوله: {فِي رَبِّهِم} أي: في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل في رِضَى ربهم وفي ذاته.
وقال * ص *: {فِي رَبِّهِم} أي: في دين ربهم، انتهى، ثم بَيَّنَ سبحانه حكم الفريقين، فتوعَّدَ تعالى الكُفَّارَ بعذابه الأليم، و{قُطِّعَتْ} معناه جُعِلَتْ لهم بتقدير كما يُفَصَّلُ الثوبُ، وروي: أَنَّها من نُحَاسٍ، و{يُصْهَرُ} معناه: يُذَابُ، وقيل: معناه: ينضج؛ قيل: إن الحميم بحرارته يُهْبِطُ كلَّ ما في الجوف ويكشطه، ويسلته، وقد روى أبو هريرةَ نحوَهُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ يُسْلِتُهُ، وَيَبْلُغُ بِهِ قَدَمَيْهِ، وَيُذِيبُهُ ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ». وقوله سبحانه: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} رُوِيَ فيه: أَنَّ لهب النار إذا ارتفع رفعهم؛ فيصلون إلى أبواب النار، فيريدون الخروج، فتردهم الزَّبَانِيَةُ بمقامعِ الحديد، وهي المقارع.

.تفسير الآيات (23- 24):

{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات...} الآية معادلة لقوله: {فالذين كَفَرُواْ} [الحج: 19] واللؤلؤ: الجوهر، وأخبر سبحانه: بأَنَّ لباسهم فيها حرير؛ لأَنَّهُ من أكمل حالات الدنيا؛ قال ابن عباس: لا تُشْبِهُ أمور الآخرة أمورَ الدنيا إلاَّ في الأسماء فقط، وأمَّا الصفات فمتباينة، والطَّيِّبُ من القول: لا إله إلا اللّه وما جرى معها من ذكر اللّه وتسبيحه، وتقديسه، وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث طيب؛ فإنَّها لا تُسْمَعُ فيها لاغية، و{صراط الحميد} هو طريقُ اللّه الذي دعا عبادَه إليه، ويحتمل أَنْ يريد بالحميد نفس الطريق، فأضاف إليهِ على حد إضافته في قوله: {دار الآخرة}، وقال البخاريُّ: {وَهُدُواْ إِلَى الطيب}: أي: أَلْهِمُوا إلى قراءة القرآن، {وَهُدُواْ إِلَى صراط الحميد}: أي: إلى الإسلام، انتهى.

.تفسير الآيات (25- 29):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} هذه الآية نزلت عام الحُدَيْبِيَّةِ حِينَ صُدَّ النبي صلى الله عليه وسلم وجاء {يَصُدُّونَ} مستقبلاً؛ ِاذ هو فعل يُدِيمونه، وخبر {إِنَّ} محذوف مُقَدَّرٌ عند قوله: و{الباد}: تقديره: خسروا أو هلكوا. و{العاكف}: المقيم في البلد، والبادي: القادم عليه من غيره.
وقوله: {بِإِلْحَادِ} قال أبو عبيدة: الباء فيه زائدة.
* ت * قال ابن العربيِّ في أحكامه: وجَعْلُ الباء زائدةً لا يُحْتَاجُ إليه في سبيل العربية؛ لأَنَّ حَمْلَ المعنى على القول أولى من حمله على الحروف، فيقال: المعنى ومن يَهُمَّ فيه بميل، لأَنَّ الإلحادَ هو الميل في اللغة إلاَّ أَنَّهُ قد صار في عُرْفِ الشرع ميلاً مذموماً، فرفع اللّه الإشكال، وبَيَّنَ سبحانه أَنَّ الميلَ بالظلم هو المراد هنا، انتهى.
قال * ع *: والإلحاد الميلُ وهو يشمل جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر، فلعظم حرمة المكان توعد اللّه تعالى على نية السيئة فيه، ومَنْ نوى سيئة ولم يعملها لم يُحَاسَبْ بذلك إلاَّ في مَكَّةَ هذا قولُ ابنِ مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم.
قال * ص *: وقوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ}: أَنْ: مفسِّرةٌ لقولٍ مُقَدَّرٍ، أي: قائلين له، أو موحين له: لا تشرك، وفي التقدير الأول نَظَرٌ فانظره، انتهى.
وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين...} الآية: تطهيرُ البيت عامٌّ في الكُفْرِ، والبِدَعِ، وجميعِ الأَنْجَاسِ، والدماءِ، وغير ذلك، {والقائمين}: هم المصلون، وخَصَّ سبحانه بالذكر من أركان الصلاة أعظَمَها، وهو القيامُ والركوعُ والسجودُ، ورُوِيَ: «أَنَّ إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لَمَّا أُمِرَ بالأذان بالحج قال: يا رب، وإذا أَذَّنْتُ، فَمَنْ يَسْمَعُنِي؟ فقيل له: نادِ يا إبراهيمُ، فعليك النداءُ وعلينا البلاغ؛ فصعد على أبي قُبَيْس، وقيل: على حجر المَقَام، ونادى: أَيُّها الناس، إنَّ الله تعالى قد أَمرهم بحجِّ هذا البيتِ؛ فَحِجُّوا، فَرُوِيَ أَنَّ يومَ نادى أسمع كُلَّ مَنْ يحج إلى يوم القيامة في أصلابِ الرجال، وأجابه كُل شَيءٍ في ذلك الوقْتِ: من جمادٍ، وغيرهِ: لبَّيكَ اللَّهُمَّ لبيك؛ فجرت التلبيةُ على ذلك» قاله ابن عباس، وابن جبير،، و{رِجَالاً}: جمع رَاجِل، وَال {ضَامِر}: قالت فرقة: أراد بها الناقةَ؛ وذلك أَنه يقال: ناقة ضامرٌ، وقالت فرقة: لفظ {ضامر} يشمل كلَّ مَنِ اتصف بذلك من جمل، أو ناقة، وغيرِ ذلك.
قال * ع *: وهذا هو الأظهر، وفي تقديم {رِجَالاً} تفضيلٌ للمُشَاةِ في الحج؛ وإليه نحا ابن عباس.
قال ابن العربي في أحكامه: قوله تعالى: {يَأْتِينَ} رَدَّ الضمير إلى الإبل؛ تكرمةً لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال تعالى: {والعاديات ضَبْحاً} [العاديات: 1].
في خيل الجهاد؛ تكرمةً لها حين سَعَتْ في سبيل اللّه، انتهى.
والفَجُّ: الطريق الواسعة، والعميق: معناه: البعيد؛ قال الشاعر [الطويل]:
إِذَا الْخَيْلُ جَاءَتْ مِنْ فِجَاجٍ عَمِيقَة ** يَمُدُّ بِهَا فِي السَّيْرِ أَشْعَثُ شَاحِبُ

وال {منافع} في هذه الآية التجارةُ في قول أكثر المتأولين، ابنِ عباس وغيرِه، وقال أبو جعفر محمد بن علي: أرادذ الأَجْرَ ومنافع الآخرة، وقال مجاهد بعموم الوجهين.
* ت * وأظهرها عندي قول أبي جعفر؛ يظهر ذلك من مقصد الآية، واللّه أعلم.
وقال ابن العربيِّ: الصحيح: القولُ بالعموم، انتهى.
وقوله سبحانه: {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} ذهب قوم إلى: أَنَّ المراد ذكر اسم اللّه على النَّحْرِ والذبح، وقالوا: إنَّ في ذكر الأيام دليلاً على أنَّ الذبح في الليل لا يجوزُ، وهو مذهب مالكٍ وأصحابِ الرأي.
وقالت فرقة فيها مالك وأصحابُه: الأيام المعلوماتُ: يومُ النحر ويومانِ بعده.
وقوله: {فَكُلُواْ} ندبٌ، واستحب أهل العلم أن يأكلَ الإنسانُ مِنْ هَدْيِهِ وأَضْحِيَّتِهِ، وأنْ يتصدَّقَ بالأكثر، والبائس: الذي قد مَسَّهُ ضُرُّ الفاقة وبؤسها، والمراد أهل الحاجة، والتفث: ما يصنعه المُحْرِمُ عند حِلِّهِ من تقصيرِ شعر وحلقه، وإزالة شعث ونحوه، {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ}: وهو ما معهم من هدي وغيره، {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق}: يعني: طوافَ الإفاضة الذي هو من واجبات الحج.
قال الطبري: ولا خلاف بين المتأوِّلِينَ في ذلك.
قال مالك: هو واجب، ويرجع تاركه من وطنه إلاَّ أَنْ يطوف طوافَ الوداع؛ فإنَّهُ يجزيه عنه، ويحتمل أَنْ تكونَ الإشارة بالآية إلى طواف الوداع، وقد أَسْنَدَ الطبريُّ عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيراً عن قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} فقال: هو طواف الوداع؛ وقاله مالك في الموطإِ، واخْتُلِفَ في وجهِ وصف البيتِ بالعتيق، فقال مجاهد وغيره: عتيق، أي: قديم.
وقال ابن الزبير: لأَنَّ اللّه تعالى أعتقه من الجبابرة.
وقيل: أعتقه من غرق الطَّوفانِ، وقيل غير هذا.

.تفسير الآيات (30- 31):

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)}
وقوله: {ذلك} يحتمل أَنْ يكونَ في موضع رفع بتقدير: فرضكم ذلك، أو الواجب ذلك، ويحتمل أن يكون في محلِّ نصب بتقدير: امتثلوا ذلك ونحو هذا الإضمار، وأَحْسَنُ الأشياءِ مُضْمَراً أحسنُهَا مظهراً؛ ونحو هذه الإشارةِ البليغةِ قَوْلُ زُهَيْرِ: [البسيط]
هذا، وَلَيْسَ كَمَنْ يَعْيَا بِخُطْبَتِهِ ** وَسْطَ النَّدِيِّ إذَا مَا نَاطِقٌ نَطَفَا

والحُرُمَاتُ المقصودة هنا هي أفعال الحج.
وقال ابن العربي في أحكامه: الحرمات امتثال ما أَمَرَ اللّه تعالى به، واجتنابُ ما نهى عنه؛ فإنَّ للقسم الأَوَّلِ حرمةَ المبادرة إلى الامتثال، وللثاني حرمةَ الانكفاف والانزجار. انتهى.
وقوله: {فَهُوَ خَيْرٌ} ظاهر أنها ليست للتفضيل، وإنما هي عِدةٌ بخير، ويحتمل أن يجعل {خَيْرٌ} للتفضيل على تجوز في هذا الموضع.
* ص *: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} أي: فالتعظيم خير له، انتهى.
وقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} يحتمل معنيين.
أحدهما: أَنْ تكون {من} لبيان الجنس أي: الرجس الذي هو الأوثان؛ فيقع النهي عن رِجْسِ الأوثان فقط، وتبقى سائر الأرجاس نَهْيُهَا في غير هذا الموضع.
والمعنى الثاني: أَنْ تكون {من} لابتداء الغاية فكأنه نهاهم سبحانه عن الرجس عموماً، ثم عَيَّنَ لهم مبدأه الذي منه يلحقهم؛ إذ عبادة الوثن جامعةٌ لكل فساد ورجس، ويظهر أن الإشارة إلى الذبائح التي كانت للأوثان فيكون هذا مِمَّا يُتْلَى عليهم، والمَرْوِيُّ عن ابن عباس وابنُ جُريج: أَنَّ الآية نَهْيٌ عن عبادة الأوثان، و{الزور} عامٌّ في الكَذِبِ والكفر؛ وذلك أَنَّ كُلَّ ما عدا الحق فهو كذب وباطل.
وقال ابن مسعود وغيرُه: إنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالشِّرْكِ، وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ» والزُّورُ: مْشْتَقٌّ من الزَّوْرِ، وهو الميل، ومنه في جانب فلان زور، ويظهر أَنَّ الإشارة إلى زور أقوالهم في تحريمِ وتحليلِ ما كانوا قد شرعوا في الأنعام، و{حُنَفَاءَ} معناه مستقيمين أو مائلين إلى الحق، بحسب أن لفظة الحنف من الأضداد، تَقَعُ على الاستقامة، وتقع على المَيْلِ، والسحيق: البعيد.